فصل: قال النسفي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن كثير:

سورة الناس:
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1)}
هذه ثلاث صفات من صفات الرب، عز وجل؛ الربوبية، والملك، والإلهية: فهو رب كل شيء ومليكه وإلهه، فجميع الأشياء مخلوقة له، مملوكة عبيد له، فأمر المستعيذ أن يتعوذ بالمتصف بهذه الصفات، من شر الوسواس الخناس، وهو الشيطان الموكل بالإنسان، فإنه ما من أحد من بني آدم إلا وله قرين يُزَين له الفواحش، ولا يألوه جهدًا في الخبال. والمعصوم من عَصَم الله، وقد ثبت في الصحيح أنه: «ما منكم من أحد إلا قد وُكِل به قرينة».
قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: «نعم، إلا أن الله أعانني عليه، فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير» وثبت في الصحيح، عن أنس في قصة زيارة صفية النبي صلى الله عليه وسلم وهو معتكف، وخروجه معها ليلا ليردها إلى منزلها، فلقيه رجلان من الأنصار، فلما رأيا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرعا، فقال رسول الله: «على رسلكما، إنها صفية بنت حُيي». فقالا سبحان الله، يا رسول الله. فقال: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئًا، أو قال: شرًا».
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا محمد بن بحر، حدثنا عدي بن أبي عمَارة، حدثنا زيادًا النّميري، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم، فإن ذكر خَنَس، وإن نسي التقم قلبه، فذلك الوسواس الخناس». غريب.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن عاصم، سمعت أبا تميمة يُحَدث عن رَديف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: عَثَر بالنبي صلى الله عليه وسلم حمارهُ، فقلت: تَعِس الشيطان. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تقل: تعس الشيطان؛ فإنك إذا قلت: تعس الشيطان، تعاظَم، وقال: بقوتي صرعته، وإذا قلت: بسم الله، تصاغر حتى يصير مثل الذباب»..
تفرد به أحمد، إسناده جيد قوي، وفيه دلالة على أن القلب متى ذكر الله تصاغر الشيطان وغُلِب، وإن لم يذكر الله تعاظم وغلب.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو بكر الحنفي، حدثنا الضحاك بن عثمان، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أحدكم اذا كان في المسجد، جاءه الشيطان فأبس به كما يُبَس الرجل بدابته، فإذا سكن له زنقه- أو: ألجمه».
قال أبو هُرَيرة: وأنتم ترون ذلك، أما المزنوق فتراه مائلا- كذا- لا يذكر الله، وأما الملجم ففاتح فاه لا يذكر الله، عز وجل. تفرد به أحمد.
وقال سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: {الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} قال: الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا سها وغفل وسوس، فإذا ذكر الله خَنَس. وكذا قال مجاهد، وقتادة.
وقال المعتمر بن سليمان، عن أبيه: ذُكرَ لي أن الشيطان، أو: الوسواس ينفث في قلب ابن آدم عند الحزن وعند الفرح، فإذا ذكر الله خنس.
وقال العوفي عن ابن عباس في قوله: {الْوَسْوَاس} قال: هو الشيطان يأمر، فإذا أطيع خنس.
وقوله: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} هل يختص هذا ببني آدم- كما هو الظاهر- أو يعم بني آدم والجن؟ فيه قولان، ويكونون قد دخلوا في لفظ الناس تغليبا.
وقال ابن جرير: وقد استعمل فيهم (رجَالٌ منَ الجنَ) فلا بدع في إطلاق الناس عليهم.
وقوله: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} هل هو تفصيل لقوله: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} ثم بينهم فقال: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} وهذا يقوي القول الثاني. وقيل قوله: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} تفسير للذي يُوسوس في صدور الناس، من شياطين الإنس والجن، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقول غُرُورًا} [الأنعام: 112]، وكما قال الإمام أحمد: حدثنا وَكِيع، حدثنا المسعودي، حدثنا أبو عُمَر الدمشقي، حدثنا عبيد بن الخشخاش، عن أبي ذر قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد، فجلست، فقال: «يا أبا ذر، هل صليت؟».
قلت: لا.
قال: «قم فصل».
قال: فقمت فصليت، ثم جلست فقال: «يا أبا ذر، تعوذ بالله من شر شياطين الإنس والجن».
قال: قلت: يا رسول الله، وللإنس شياطين؟ قال: «نعم».
قال: قلت: يا رسول الله، الصلاة؟ قال: «خير موضوع، من شاء أقل، ومن شاء أكثر».
قلت: يا رسول الله فما الصوم؟ قال: «فرض يجزئ، وعند الله مزيد».
قلت: يا رسول الله، فالصدقة؟ قال: «أضعاف مضاعفة».
قلت: يا رسول الله، أيها أفضل؟ قال: «جُهد من مُقل، أو سر إلى فقير».
قلت: يا رسول الله، أي الأنبياء كان أول؟ قال: «آدم».
قلت: يا رسول الله، ونبي كان؟ قال: «نعم، نبي مُكَلَّم».
قلت: يا رسول الله، كم المرسلون؟ قال: «ثلثمائة وبضعة عشر، جَمًّا غَفيرًا».
وقال مرة: «خمسة عشر».
قلت: يا رسول الله، أيما أنزل عليك أعظم؟
قال: «آية الكرسي: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}»
ورواه النسائي، من حديث أبي عمر الدمشقي، به. وقد أخرج هذا الحديث مطولا جدًا أبو حاتم بن حبان في صحيحه، بطريق آخر، ولفظ آخر مطول جدًا فالله أعلم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا وَكِيع، عن سفيان، عن منصور، عن ذر بن عبد الله الهَمْداني، عن عبد الله بن شداد، عن ابن عباس قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني أحدث نفسي بالشيء لأن أخر من السماء أحب إلى من أن أتكلم به.
قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الله أكبر الله أكبر، الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة». ورواه أبو داود والنسائي، من حديث منصور- زاد النسائي: والأعمش- كلاهما عن ذر، به.
آخر التفسير، ولله الحمد والمنة، والحمد لله رب العالمين. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين. ورضي الله عن الصحابة أجمعين. حسبنا الله ونعم الوكيل.. اهـ.

.قال الخازن:

قوله: {قل أعوذ برب الناس}
إنما خصص الناس بالذّكر، وإن كان رب جميع المحدثات لأنه لما أمر بالاستعاذة من شر الوسواس، فكأنه قال أعوذ من شر الموسوس إلى الناس بربهم الذي يملك عليهم أمورهم، وهو إلههم ومعبودهم فإنه هو الذي يعيذهم من شرهم، وقيل إن أشرف المخلوقات هم الناس، فلهذا خصهم بالذكر.
{ملك الناس إله النّاس} إنما وصف نفسه أولًا: بأنه رب الناس، لأن الرب قد يكون ملكًا، وقد لا يكون ملكًا فنبه بذلك على أنه ربهم، وملكهم ثم إن الملك لا يكون إلهًا، فنبه بقوله: {إله الناس} على أن الإلهية خاصة بالله سبحانه، وتعالى لا يشاركه فيها أحد، والسبب في تكرير لفظ الناس يقتضي مزيد شرفهم على غيرهم {من شر الوسواس} يعني الشّيطان ذا الوسواس، والوسوسة الهمز، والصوت الخفي.
{الخناس} يعني الرجاع من الذي عادته أن يخنس أي يتأخر.
قيل إن الشيطان جاثم على قلب الإنسان، فإذا غفل وسها وسوس، وإذا ذكر الله تعالى خنس الشيطان عنه، وتأخر وقال قتادة الخناس له خرطوم كخرطوم الكلب وقيل كخرطوم الخنزير في صدر الإنسان فإذا ذكر العبد ربه خنس، ويقال رأسه كرأس الحية واضع رأسه على ثمرة القلب يمسه ويجذبه، فإذا ذكر الله تعالى خنس وإذا لم يذكر الله تعالى رجع، ووضع رأسه على القلب فذلك قوله تعالى: {الذي يوسوس في صدور الناس} يعني بالكلام الخفي الذي يصل مفهومه إلى القلب من غير سماع، والمراد بالصدر القلب {من الجنة} يعني الجن {والناس} وفي معنى الآية وجهان:
أحدهما: أن الناس لفظ مشترك بين الجن والإنس، ويدل عليه قول بعض العرب جاء قوم من الجن، فقيل من أنتم قالوا أناس من الجن، وقد سماهم الله تعالى رجالًا في قوله: {يعوذون برجال من الجن} فعلى هذا يكون معنى الآية؛ أن الوسواس الخناس يوسوس للجن كما يوسوس للإنس.
الوجه الثاني: أن الوسواس الخناس قد يكون من الجنة، وهم الجن وقد يكون من الإنس، فكما أن شيطان الجن قد يوسوس للإنسان تارة، ويخنس أخرى، فكذلك شيطان الإنس قد يوسوس للإنسان كالنّاصح له فإن قبل زاد في الوسوسة، وإن كره السامع ذلك انخنس وانقبض فكأنه تعالى أمر أن يستعاذ به من شر الجن والإنس جميعًا عن عائشة رضي الله تعالى عنها «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم ينفث فيهما، فيقرأ {قل هو الله أحد}، و{قل أعوذ برب الفلق} و{قل أعوذ برب الناس}، ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده يبدأ بهما على رأسه، وما أقبل من جسده يفعل ذلك ثلاث مرات»
عن عائشة رضي الله عنها «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات، وينفث، فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه، وأمسح عنه بيديه رجاء بركتهما» أخرجه مالك في الموطأ ولهما بمعناه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل، وأطراف النهار، ورجل آتاه الله مالًا، فهو ينفق منه آناء الليل وأطراف النهار».
عن ابن عباس قال: «قيل يا رسول الله أي الأعمال أحب إلى الله تعالى، قال الحال المرتحل قيل، وما الحال المرتحل قال الذي يضرب من أول القرآن إلى آخره كلما حل ارتحل» أخرجه التّرمذي، والله سبحانه، وتعالى أعلم بمراده، وأسرار كتابه. اهـ.

.قال النسفي:

سورة الناس مختلف فيها وهي ست آيات.
بسم الله الرحمن الرحيم
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الناس}
أي مربيهم ومصلحهم {مَلِكِ الناس} مالكهم ومدبر أمورهم {إله الناس} معبودهم.
ولم يكتف بإظهار المضاف إليه مرة واحدة لأن قوله: {مَلِكِ الناس إله الناس} عطف بيان لـ: {رَبّ الناس} لأنه يقال لغيره رب الناس وملك الناس، وأما إله الناس فخاص لا شركة فيه.
وعطف البيان للبيان فكأنه مظنة للإظهار دون الإضمار.
وإنما أضيف الرب إلى الناس خاصة وإن كان رب كل مخلوق تشريفًا لهم، ولأن الاستعاذة وقعت من شر الموسوس في صدور الناس فكأنه قيل: أعوذ من شر الموسوس إلى الناس بربهم الذي يملك عليهم أمورهم وهو إلههم ومعبودهم.
وقيل: أراد بالأول الأطفال.
ومعنى الربوبية يدل عليه، وبالثاني الشبان ولفظ الملك المنبئ عن السياسة يدل عليه، وبالثالث الشيوخ ولفظ الإله المنبئ عن العبادة يدل عليه، وبالرابع الصالحين إذ الشيطان مولع بإغوائهم، وبالخامس المفسدين لعطفه على المعوذ منه {مِن شَرّ الوسواس} هو اسم بمعنى الوسوسة كالزلزال بمعنى الزلزلة، وأما المصدر فوسواس بالكسر كالزلزال والمراد به الشيطان سمي بالمصدر كأنه وسوسة في نفسه لأنها شغله الذي هو عاكف عليه، أو أريد ذو الوسواس والوسوسة الصوت الخفي {الخناس} الذي عادته أن يخنس منسوب إلى الخنوس وهو التأخر كالعواج والبتات لما روي عن سعيد بن جبير إذا ذكر الإنسان ربه خنس الشيطان وولى، وإذا غفل رجع ووسوس إليه {الذى يُوَسْوِسُ في صُدُورِ الناس} في محل الجر على الصفة، أو الرفع، أو النصب على الشتم، وعلى هذين الوجهين يحسن الوقف على الخناس {مِنَ الجنة والناس} بيان للذي يوسوس على أن الشيطان ضربان: جني وإنسي كما قال: {شياطين الإنس والجن} [الأنعام: 112] وعن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال لرجل: هل تعوذت بالله من شيطان الإنس؟ روي أنه عليه السلام سحر فمرض فجاءه ملكان وهو نائم فقال أحدهما لصاحبه: ما باله.
فقال: طُبّ.
قال: ومن طبه؟ قال: لبيد بن أعصم اليهودي.
قال: وبم طبه؟ قال: بمشط ومشاطة في جف طلعة تحت راعوفة في بئر ذي أروان.
فانتبه صلى الله عليه وسلم فبعث زبيرًا وعليًا وعمارًا رضي الله عنهم فنزحوا ماء البئر وأخرجوا الجف، فإذا فيه مشاطة رأسه وأسنان من مشطه، وإذا فيه وتر معقد فيه إحدى عشرة عقدة مغروزة بالإبر، فنزلت هاتان السورتان، فكلما قرأ جبريل آية انحلت عقدة حتى قام صلى الله عليه وسلم عند انحلال العقدة الأخيرة كأنما نشط من عقال وجعل جبريل يقول: باسم الله أرقيك والله يشفيك من كل داء يؤذيك.
ولهذا جوز الاسترقاء بما كان من كتاب الله وكلام رسوله عليه السلام لا بما كان بالسريانية والعبرانية والهندية، فإنه لا يحل اعتقاده والاعتماد عليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا وأقوالنا ومن شر ماعملنا وما لم نعمل، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله ونبيه وصفيه، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، صلى الله عليه وعلى آله مصابيح الأنام وأصحابه مفاتيح دار السلام صلاة دائمة ما دامت الليالي والأيام. اهـ.

.قال ابن جزي:

سورة الناس:
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الناس}
إن قيل لم أضاف الرب إلى الناس خاصة وهو رب كل شيء؟
فالجواب: أن الاستعاذة وقعت من شر الموسوس في صدور الناس، فخصهم بالذكر لأنهم المعوذين بهذا التعويذ والمقصودون هنا دون غيرهم {مَلِكِ الناس إله الناس} هذا عطف بيان.
فإن قيل: لم قدم وصفه تعالى برب ثم بملك ثم بإله؟ فالجواب أن هذا على الترتيب في الارتقاء إلى الأعلى وذلك أن الرب قد يطلق على كثير من الناس، فيقال فلان رب الدار، وشبه ذلك فبدأ به لاشتراك معناه، وأما الملك فلا يوصف به إلا أحد من الناس، وهم الملوك ولا شك أنهم على أعلى من سائر الناس، فلذلك جاء به بعد الرب، وأما الإله فهو أعلى من الملك ولذلك لا يدعي الملوك أنهم آلهة فإنما الإله وأحد لا شريك له ولا نظير فلذلك ختم به..
فإن قيل: لم أظهر المضاف إليه وهو الناس في المرة الثانية والثالثة فهلا أضمره في المرتين لتقديم ذكره في قوله برب الناس أو هلا اكتفى بإظهاره في المرة الثانية؟ فالجواب أنه لما كان عطف بيان حسن فيه البيان وهو الإظهار دون الإضمار، وقصد أيضًا الاعتناء بالمكرر ذكره كقول الشاعر:
لا أرى الموت يسبق الموت شيء ** يبغص الموت ذا الغنى والفقير

{الوسواس} وهو مشتق من الوسوسة وهي الكلام الخفي، فيحتمل أن يكون الوسواس بمعنى الموسوس فكأنه اسم فاعل وهذا يظهر من قول ابن عطية: الوسواس من أسماء الشيطان، ويحتمل أن يكون مصدرًا وصف به الموسوس على وجه المبالغة، كعدَّل وصوَّم أو على حذف مضاف تقديره ذي الوسواس، وقال الزمخشري: إنما المصدر وسواس بالكفر {الخناس} معناه الراجع علىعقبه المستمر أحيانًا وذلك متمكن في الشيطان فإنه يوسوس فإذا ذكر العبدُ الله وتعوذ به منذ تباعد عنه، ثم رجع إليه عند الغفلة عن الذكر، وهو يخنس في تباعده ثم في رجوعه بعد ذلك.
{الذى يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ الناس} وسوسة الشيطان في صدر الإنسان بأنواع كثيرة منها: إفساد الإيمان والتشكيك في العقائد فإن لم يقدر على ذلك أمره بالمعاصي، فإن لم يقدر على ذلك ثبَّطه عن الطاعات، فإن لم يقدر على ذلك أدخل عليه الرياء في الطاعات ليحبطها، فإن سلم من ذلك أدخل عليه العُجْب بنفسه، واستكثار عمله، ومن ذلك أنه يوقد في القلب نار الحسد، والحقد، والغضب، حتى يقود الإنسان إلى شر الأعمال وأقبح الأحوال.
وعلاج وسوسته بثلاثة أشياء. وأحدها: الإكثار من ذكر الله..
وثانيها: الإكثار من الاستعاذة بالله منه ومن أنفع شيء في ذلك قراءة هذه السورة..
وثالثها: مخالفته والعزم على عصيانه..
فإن قيل: لم قال في صدور الناس ولم يقل: في قلوب الناس؟
فالجواب: أن ذلك إشارة إلى عدم تمكن الوسوسة، وأنها غير حالة في القلب بل هي محوِّمة في صدور حول القلب {مِنَ الجنة والناس} هذا بيان لجنس الوسواس وأن يكون من الجن، ومن الناس، ثم إن الموسوس من الإنس يحتمل أن يريد من يوسوس بخدعه، وأقواله الخبيثة، فإنه الشيطان كما قال تعالى: {شياطين الإنس والجن} [الإنعام: 112] أو يريد به نفس الإنسان إذ تأمره بالسوء، فإنها أمّارة بالسوء والأول أظهر، وقيل: من الناس معطوف على الوسواس كأنه قال: أعوذ من شر الوسواس من الجنة ومن شر الناس، وليس الناس على هذا ممن يوسوس. والأول أظهر وأشهر.
فإن قيل: لم ختم القرآن بالمعوذتين وما الحكمة في ذلك؟ فالجواب من ثلاثة أوجه: الأول: قال شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير: لما كان القرآن من أعظم النعم على عباده، والنعم مظنة الحسد فختم بما يطفئ الحسد من الاستعاذة بالله.
الثاني: يظهر لي أن المعوذتين ختم بهما لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيهما: «أنزلت على آيات لم ير مثلهن قط» كما قال في فاتحة الكتاب: «لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الفرقان مثلها» فافتتح القرآن بسورة لم ينزل مثلها واختتم بسورتين لم يُرَ مثلهما ليجمع حسن الافتتاح والاختتام، ألا ترى أن الخطب والرسائل والقصائد وغير ذلك من أنواع الكلام إنما ينظر فيها إلى حُسن افتتاحها واختتامها. الوجه الثالث: يظهر لي أيضًا أنه لما أمر القارئ أن يفتتح قراءته بالتعوذ من الشيطان الرجيم، ختم القرآن بالمعوذتين ليحصل الاستعاذة بالله عند أول القراءة وعند آخر ما يقرأ من القراءة، فتكون الاستعاذة قد اشتملت على طرفي الابتداء والانتهاء، وليكون القارئ محفوظًا بحفظ الله الذي استعاذ به من أول أمره إلى آخره وبالله التوفيق لا رب غيره. اهـ.